الأربعاء، 15 أكتوبر 2008



هذه مقالة القيت في ندوة ادبية في ابوظبي بالمسرح الوطني

.في ظلامِ النهر والمنفى...






صَدقتَ عِنْدما قُلْتَ لي بأنّكَ سوف تكْبرُ في غِيابي عنْكَ لسنواتٍ تُشْبهُ الرّماد ، لا تبْكي يَا صاحِبي ، أعْطِني يوْمكَ الدّامي لأروي ما حدثَ أو لأحْفُر على تينةِ البيتِ أيّامي فيكَ ، لأنّني لمْ أكنْ معهُمْ في المواساةِ والمأْساةِ فها أنتَ صدقْتَ عِنْدما قلتَ لي بأنّكَ سوفَ تكْبرُ وتدْخُل في ملْحِ أخيكَ المذبوحِ منذُ ثلاثينَ عاماً وبأنّكَ سوفَ تنجبُ زعتراً وشهداءً ، دعْني أُخففُ عنكَ همّكَ وأصيغُ بأصابعي ما حدَث ، ضاقَ بي وجْهُكَ المخيميُّ النّائمُ في قلبِ وادٍ بينَ التلالِ والبحْر ، هكذا علّمتْني الغُربة أنْ أعبدَ الماضي وانْ كانَ موتاً يَا صديقي المُفدّى بالمدائحِ والأغاني والمطر ...أعِدُكَ بأنْ أراكَ ولو لِساعةٍ تثيرُ في داخلي دهشتي وتصْنعُ من زمانِ الغرائبِ خيط المُعجزات واللقاء السريع منْ على تلّةٍ يسمونها (تلّة الستْ) التي تطلُّ عليكَ بكاملكَ المتربّعِ فوق بعضهِ البعض ، وَأعدُكَ بأنْ أراكَ ولو فوق مرْكبٍ يُصارعُ أمْواج الرّحيل ، وَأكْتبُ على دفْترِ الشّمْسِ ذكْراكَ مثْلما صاغَ أبي بأصابعهِ العشرِ (( زهْرةِ الطين )) أُمْسِكُ طينكَ الممزوجِ بالماءِ والنّارِ أعصرهُ وتسألُني هلْ بدون الطينِ يولدُ البشر ؟؟ فتأْتي الرّيحُ مثل نسْرٍ على وجهي الدّامعُ من نكسةٍ صدئةٍ وأنتَ واقفٌ أمامي على صهوة الوجعِ المقدّسِ بيتاً بيتاً ، وَكنْتُ سمّيتُكَ عنْ ظهرِ قلْبٍ ((نهر الجليد )) في احدى القصائد ووضعتُ القصيدة جانباً واكتفيتُ بقولِ ابي تمام (( السّيفُ أصْدقُ أنباءً مِن الكُتُبِ)) مع اهتزاز اليدِ اليمنى وخوف النفس من المشهد المباغتِ في نكبةٍ أخرى ومجهولٍ يحاولُ أن ينبثق منْ تُربةٍ امتزجَ فيها الرّوحُ بالقبرِ .....تسْالُني للمرّةِ العشرينَ وأُجيبُكَ مرّة لأنّ هُناكَ أسئلةٌ ما لها أجوبة ، وأقولُ تعبْتُ من السياسةِ وتجْميعِ المواضيع وحصْرِها في فكْرةٍ تتسعُ لقصيدةٍ وَطنيّةٍ وسط احتِراقِكَ وأقولُ لا تنقصُكَ قصيدةً بل صيحةٍ تصلُ (الشارقة ) وترجعُ اليّ لتقولَ بأنّها لمْ تُنْقذُ أهْلكَ الباحثينَ عن قِطعةِ خُبْزٍ أو كوب ماءٍ فيكَ من الشّارعِ العامِ الذي يَقسمكَ الى قسْمينِ وأهلكَ اللذينَ يواصلونَ مسيرة التيهِ بلا ذنْبٍ اقترفوهُ أو جُرحٍ ينهضُ فيهُمْ ...فلماذا قتلوكَ ؟ ربّما لأنّكَ كُنتَ تشعُر بالفرحِ من وراءِ منديلٍ تساقطَ من سمائِكَ الصافيةُ .... بأي ذنْبٍ قتلوكَ ؟ ربّما لأنّكَ كُنتَ ترْقصُ في عُرس ، وما شأنُكَ باللصوصِ ان دخلوا وان خَرجوا ؟ وَمنْ هو العدوُّ الشّقيقُ أم الغريبُ ؟ ربّما الغُيوم التي لمْ تمطرْ فوق صحراءِ الآخرينَ ضوءً وأحْلاماً للصّغارِ النّائمينَ بلا جنازةٍ او فراشٍ عتيقٍ ،لا نجمٌ فوقكَ ...لا قمرٌ يضيءُ النفس الحالكة ، وَلا ماضي يرسمُ أيّام الطفولة في ساحة البيتِ ، وَلا يدٌ تعيدُ القذيفة الى صاحِبها كلّما حادتْ عن مسارِها في الظّلامِ الكثيفِ ، وَلا ورْدَ يضحكُ في مزهريّةِ الرّوحِ المثقوبةِ منْ شدّةِ الشوقِ ، والسّماءُ تبْكي ...والفضاءُ دُخانٌ على ضفافِ النّهرِ،ومضينا أنا وأنتَ لنصْمُدَ فوق العواصِفِ والرّعودِ لنوحّد الحلمِ المقدّسِ والطّريقِ ...الحربُ ليستْ لنا ...ولكنّ لون البطولة في الهواء ، وعشْنا هُناكَ قرب السّياجِ الأخضرِ والحجارةِ والحاراتِ بعتمتِها في أكواخٍ لا تزورها الشمسُ ، وأنت الذي وعدتني بأنْ نلتقي تحتَ شجْرةٍ وفنجانُ قهوةٍ فجريّةٍ على صوت الطّفولةِ يا صديقي المثقلُ برائحةِ الليلِ والذّكرى ..اصمدْ واهتفْ ..حيّ على الصّمود ، ماذا يريدُ اللصُّ منّي ؟يختبأُ وراء الناس كي يموتوا ويبقى حاملاً سيفهُ دون هدفٍ أو لهدفٍ لا يقنعُ البسطاء ،مَا تعوّدتَ أن تموت في احتفالِ الرّصاصِ ويومَ زفاف الحقيقة والوضوءِ منْ نهر النزيفِ للصّلاةِ على الألمِ والشجونِ والأمنياتِ الكبيرةِِ ، أعرفُكَ منْ غُروبِ البحرِ وخندقٍ مُعتمٍ يشهدُ على ما أثمروهُ آبائنا وجئْنا نحنُ كي نبنيهِ مقعداً على شاطىءِ البحرِ كلّما تذكرْتُ ذاك المكان كانَ يراودُني قمرٌ يقولُ لي ( في هذا الخندق كانت غُرفةُ أبيكَ في يومِ النّضالِ الطّويلِ) فاشهدْ على ما قدمتهُ الخنادقُ القديمةُ لكَ ولأخيكَ لتحيا سعيداً في هذا العالمِ المخيميّ الأسيرُ مثل القلبِ والطّليقُ مثل السنونو في صبحِ أحلامهِ ،أرفعُ يدي وَأنا أرتجفُ بتحيّةٍ قدْ تصلُ وقدْ لا تصلُ في هذا الأُفقِ المسدودِ بالحرائقِ والخرابِ ، دعني أراكَ ولو لساعةٍ من على تلّةٍ يسمونها (تلّة المحمّره) التي تُطلُّ على نفسكَ الدّامعةِ اللامعةِ في هجُومِ الضّبابِ والحربِ ، رأيتُكَ في منامي ورأيتُ نفسي تمشي على الجسرِ فوقكَ وتردّدُ (غربة العاشق وسماء المخيم ) التي كُتبت كي تكون صورةً على جدار الغيابِ لكي أراكَ في الخيالِ والواقعِ في القصيدةِ والحياةِ حين يُباغتُني اسمكَ الشتائيّ وَصيفي الحار ، والنهار هكذا كانَ ينبُضُ في قلبي كاحتراقِ الحبّ من نظرةٍ أولى واحساسٍ خفيٍّ ، نهارُكَ مشتعلٌ في شغفي اليكَ وحنيني الى مطر الشّتاء فوق السّطوحِ ، بكيتُ لأنّني شعرْتُ بالصوتِ الصّارخِ يَصقُلُني ويُثيرُ في داخلي غيرتي عليكَ ، فانهضْ من ثلْجِ الزّمانِ يا حبيبي فهلْ من وسطِ الحواجزِ أستطيعُ العُبور ؟؟ نجمٌ ضليلٌ يحاولُ أن يُطارد الغيم الأسود في فضاءٍ فسيحٍ ، قلتُ سأصرخُ لكن صوتي لا يعيدُكَ الى ذراعي وَطيني ، ما زلتُ في المنْفى ولمْ نلتقي منذُ عامٍ لأنّها الحربُ التي غيّرت شكلكَ لكنّها لم تغيرْ معناكَ وسرّ المجْدِ فيكَ وفي جنونِ الصّباحِ المُبللِ بالنّدى وضجّةِ الأمواجِ على شاطىءِ حارةِ ( الدّامون ) ....آهٍ على جُرحِكَ المخمورِ بالأيّامِ .....آهٍ على ضريحي فوق أكفٍّ أدمنتْ جمر البُكاء .... آهٍ علينا في هذا الكفنِ الجماعيّ والمسافات الطويلة قطعناها بعشقِنا للجنّةِ الموعودةِ هي الأرضُ ، الأرضُ بأرضِها وناسِها وأسماءها وأشيائها ....وَلا ممرّ ليخرجوا من زحامِ العاصفةِ الأولى ويدخلوا في مكانٍ ما يليقُ بمنفاهم ،كيف تغيّروا في نهارٍ يشبهُ الماضي ؟ وما أتعبتهم براكينُ التاريخِ من رحلةٍ طالتْ وأشرعةٍ ما عادت تمسكُ الريح من كثرةِ الثقوبِ داخلها ، منْ مات منهُم ؟ ومن مازال يرفعُ الأعلام عالياً عالياً ؟ والجرحُ كالأفعى مازال يتشبثُ بأكواخِهمْ ، أيُّها النّهرُ يا نابعاً من بحيرةِ ( المشروعِ )، يا ساجداً فوق الحصى ، اشهدْ على خنجر العاصفةِ والبرقِ من أعالي السماءِ الى رؤوسهمْ ، أيها الزّمانُ اشهدْ على قتْلنا مرتينِ والرّحيلُ الى جهة السرابِ ، يا نهرُ ..يا جارنا الحميمُ كم أحببناكَ وانزرعنا قُربكَ كالعُشبِ حول الضّفافِ وكُنّا نقطِفُ الفرفحينة ونُغنّي للدّربِ الطّويلِ ونردّدُ أغاني فيروز (سنرجعُ يوما الى حينا ) وكانَ صوتُ فيروز يجرحُنا وصوت فيروز كان شمس الصّباح تشرقُ من خلف التلالِ بين المُخيم والبحر ،هكذا ملأَت عذاباتُكَ حُنجرتي وفكرتي وَأنا أركُضُ وراء الخبرِ العاجلِ لكي أتأكّد ، هل ما زالتْ أُمي والآخرين على قيد الحياة ؟؟ودفاترُ أشعاري هُناكَ ، هل قرأوها ؟ ليعرفوا بأنّنا عُشّاقُ الياسمين والزّنبقِ في أحواضِ البيتِ ، تركتُ كلماتي ليعرف الغزاة بأنّنا كائناتٌ من ماءٍ وطينٍ وقلبٍ يفتقدُ الرّبيع ، لا تُآخذنا أيُّها الصّيف لأنّنا ضللنا الطريق اليكَ ولمْ نعبر مثلما يعبُر الآخرين من فصلٍ الى فصلٍ واثقين ما بعدهُ أمّا نحنُ ففي كلِّ فصلٍ وفصلٍ بركةٌ من دمٍ ينبثقُ مثل الشقائقِ من تربةِ الزمنِ الصامتِ ، والصمتُ كانَ في كلّ واحدٍ منّا ولكلّ واحدٍ منّا صمتهُ الخاص في العالمِ المخيميّ الطّليقُ مثل الفراشاتِ والأسيرُ مثلنا في وردِ أحلامهِ ،




باسل عبد العال

ليست هناك تعليقات: